منذ 15 أبريل 2023، تجتاح السودان صراعات شرسة، حيث تتقاتل القوى المتنافسة، وتواجه القوات المسلحة السودانية قوات الدعم السريع، وهي الصراعات التي كانت لها آثار مُدمرة على الوضع داخل السودان.
وحذرت الأمم المتحدة من أن السودان يواجه أزمة نزوح غير مسبوقة، حيث فر أكثر من 10 ملايين شخص، أي خمس سكان البلاد، من منازلهم، ويعاني أكثر من نصف هؤلاء السكان البالغ عددهم 49 مليون نسمة من انعدام الأمن الغذائي الحاد الذي يهدد حياتهم، وهي من أسوأ الظروف التي تم تسجيلها في البلاد.
ويصف تقرير لصحيفة “فاينانشال تايمز” البريطانية، هذه الحرب بأنها “الأكثر تدميراً في العالم”، ولا توجد أية علامة على وجود فائز حاسم، ناهيك عن التوصل إلى اتفاق سلام ملموس. وبالإضافة إلى المقاتلين من البلدان المجاورة، فقد اجتذبت هذه الحرب سلسلة من الجهات الفاعلة العالمية والإقليمية، حيث يتنافس كل منها على النفوذ والسلطة في أرض تعد واحدة من أكبر منتجي الذهب في إفريقيا.
ونقل التقرير عن مسؤولة الشؤون الإنسانية في الأمم المتحدة في السودان، كليمنتين نكويتا سلامي، قولها: “لقد مضى الآن 16 شهراً على هذا الصراع، ولا نرى نهاية في الأفق. ما نراه هو القتال والجوع والمرض يقتربان منا”.
ولكن كما هي الحال مع عديد من الحروب في إفريقيا، بما في ذلك في شرق الكونغو الديمقراطية، فإن الأحداث في السودان مرت دون أن يلحظها رادار العالم. فقد أثارت الصراعات في أوكرانيا وغزة، التي تعتبر صراعات استراتيجية ذات تداعيات جيوسياسية واضحة، مشاعر التضامن والاحتجاجات الجماهيرية. ولكن لم يكن هناك سوى القليل من القلق والتوتر بشأن السودان.
ورغم ذلك، فإن هناك مبالغ ضخمة على المحك، فموقع السودان على البحر الأحمر قريب من قناة السويس، وهي قناة رئيسية للتجارة العالمية، والتي أصبحت مهددة بالفعل بهجمات الحوثيين. وتتهم دول مثل روسيا وقوى الشرق الأوسط بضخ الأموال والأسلحة إلى السودان.
يقول حاكم ولاية الخرطوم، أحمد عثمان حمزة، بينما تدوي أصوات الانفجارات في الخلفية: “لقد غيّر الخامس عشر من أبريل 2023 كل شيء في السودان.. هذه حرب ضد الشعب” ووفق تقرير الصحيفة البريطانية، فإن:موارد السودان أصبحت على المحك، وأدى الصراع إلى إعاقة برنامج الإصلاح الذي يدعمه صندوق النقد الدولي.
وتسبب الصراع في زيادة تعريض قدرة الخرطوم على سداد الديون للدائنين، بما في ذلك الصين، للخطر. ويأتي ذلك في وقت كانت فيه البلاد تتفاوض على تخفيف أعباء الديون، وانكمش الاقتصاد بنسبة 40 بالمئة العام الماضي، حسب تقديرات وزير المالية جبريل إبراهيم.
ولكن فضلاً عن كونها واحدة من أكبر منتجي الذهب في إفريقيا، فإن البلاد تمتلك موارد تتوق إليها بلدان أخرى ــ بما في ذلك مساحات من الأراضي الصالحة للزراعة على طول نهر النيل، والأمر الأكثر أهمية هو أن البلاد تمتلك 750 كيلومتراً من ساحل البحر الأحمر في طريقها إلى قناة السويس، حيث تتنافس دول مختلفة على الوصول إليها.
في السياق، أوضحت الباحثة السودانية في جامعة الخرطوم، أسمهان إسماعيل، في تصريحات لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أن الاقتصاد السوداني مرَّ بأزمات متتالية على مدار السنوات الماضية، إلا أن الحرب التي اندلعت في أبريل 2023 سرّعت من وتيرة الانهيار الاقتصادي بشكل ملحوظ، مشيرة إلى أن الحرب تسببت في انهيار شامل لمختلف القطاعات المنتجة، وعلى رأسها القطاع الزراعي، الذي شهد تقلصاً حاداً في المساحات المزروعة بنسبة 60 بالمئة؛ نظراً لانعدام الاستقرار والأمن، ما دفع المزارعين إلى التخلي عن نشاطهم الزراعي.
وأبرزت إسماعيل أن تدهور القطاع الزراعي ألحق خسائر فادحة تجاوزت قيمتها 20 مليار دولار وفق بعض التقديرات، في حين تسببت الحرب في تدمير نحو 400 منشأة إنتاجية، منها منشآت في الصناعات الغذائية والدوائية، ما أدى إلى شح حاد في المواد الغذائية والدوائية وارتفاع أسعارها بشكل غير مسبوق. وأضافت أيضاً أن إنتاج الذهب تراجع إلى أقل من 2 طن سنوياً مقارنة بـ18 طناً كانت تنتجها البلاد سابقاً، بالإضافة إلى تراجع إنتاج النفط نتيجة خروج عديد من الحقول في دارفور عن الخدمة.
كما أشارت إلى أن تقلص الإنتاج في الزراعة والصناعة والمعادن انعكس سلباً على حجم الصادرات السودانية، ما أدى إلى تدهور التجارة الخارجية مع شركاء السودان التجاريين. كما أدت الحرب إلى تدمير البنية التحتية، وإحراق الأسواق، وتوقف المطارات والموانئ عن العمل، وهو ما تسبب في ارتفاع أسعار السلع وتراجع قيمة العملة الوطنية التي فقدت نحو 56 بالمئة من قيمتها مقابل العملات الأجنبية.
وأوضحت أيضاً أن النظام المصرفي تعرض لضربة كبيرة، حيث تم نهب وتدمير ما لا يقل عن 100 فرع من البنوك السودانية، بما في ذلك بنك السودان المركزي، ما يهدد بانهيار كامل للنظام المالي. كما تسبب خروج معظم القطاعات الإنتاجية من الخدمة في ارتفاع معدلات البطالة إلى 47.2 بالمئة وفقاً لإحصائيات صندوق النقد الدولي، في حين وصلت نسبة التضخم إلى 117.4 بالمئة. وشهدت قطاعات الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والكهرباء والاتصالات تدهوراً كبيراً، ما زاد من معاناة الشعب السوداني.
وفيما يتعلق بأبرز الأزمات الناجمة عن الحرب، أشارت إسماعيل إلى أن انعدام الأمن الغذائي وخروج المشاريع الكبرى من دائرة الإنتاج، مثل مشروع الجزيرة، ساهما بشكل مباشر في زيادة معدلات الفقر والبطالة. كما أدى ارتفاع الأسعار والتضخم، نتيجة نهب الأسواق وتدميرها، إلى تدهور الأمن الغذائي في البلاد. ولفتت إلى أن القطاع الصحي يعاني من تحديات جسيمة، خاصة مع تفشي الأمراض والأوبئة خلال أشهر الحرب وفصل الخريف، ما جعل الصحة واحدة من أكبر الأزمات الاقتصادية التي تواجه السودان حالياً.
ووفقا لأحدث التقديرات على لسان الخبير الاقتصادي الأممي ووزير المالية الأسبق، إبراهيم البدوي، فإن: الحرب دمرت 20 بالمئة من الرصيد الرأسمالي للاقتصاد السوداني والمقدر بنحو 600 مليار دولار. كما أدت إلى تآكل أكثر من نصف الناتج القومي الإجمالي الذي يبلغ متوسطه السنوي نحو 33 مليار دولار.
وسبب ارتفاع الخسائر الاقتصادية يعود إلى نشوب الحرب في العاصمة الخرطوم، التي تشكل مركز الثقل الاقتصادي للبلاد، حيث يتركز فيها نحو 25 بالمئة من اقتصاد البلاد، إضافة إلى انتقالها إلى مدن أخرى ذات ثقل اقتصادي كبيير مثل نيالا والفاشر و”ود مدني” عاصمة إقليم الجزيرة الذي يشكل عصب الإنتاج الزراعي في البلاد.
قطاع البنية التحتية من أكثر القطاعات تضررا، حيث تعاني أكثر من 60 بالكئو من مناطق البلاد شحا كبيرا في إمدادات الكهرباء والمياه وخدمات الاتصالات، بعد أن دمر القتال الكثير من المنشآت والشبكات الرئيسية.
كما تعرضت البنية الصناعية في البلاد إلى دمار وتخريب كامل، حيث تشير التقديرات إلى فقدان البلاد نحو 80 في المئة من وحداتها الإنتاجية بعد الأضرار الكلية والجزئية التي لحقت بأكثر من 600 مصنع منها 400 في الخرطوم وحدها، وفق بيانات اتحاد أصحاب العمل السوداني. وتآكلت العملة الوطنية بشكل كبير حيث يجري تداول الدولار الواحد حاليا فوق 2700 جنيه مقارنة مع 600 جنيها قبل اندلاع الحرب.
بدوره، أكد الخبير الاقتصادي السوداني، الدكتور وائل فهمي، في تصريحات لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أن الحروب الداخلية تُعدّ أكثر تدميراً من الحروب بين الدول، لما تخلّفه من آثار مدمرة على الشعوب والاقتصادات المحلية، موضحاً أن الحرب الداخلية في السودان أسفرت عن تداعيات اقتصادية واسعة النطاق، طالت مختلف القطاعات الإنتاجية والخدمية والمالية في 14 ولاية من أصل 18، مما أدى إلى تعطيل شامل لقواعد الإنتاج والبنية التحتية.
وأضاف فهمي أن الحرب الحالية، لا سيما بسبب الطرف المعتدي، ألحقت أضراراً بالغة بالاقتصاد السوداني، إذ تدهورت الموازنة العامة بفقدان نحو 85 بالمئة من إيرادات الدولة، وخلقت حالة من البطالة وهروب رؤوس الأموال والعمالة إلى مناطق أكثر أماناً أو إلى الخارج. كما أدت الحرب إلى انخفاض حاد في حجم الاستثمارات المحلية والأجنبية نتيجة تدهور الأمن السياسي والاقتصادي، وتعرض مدخرات المواطنين للنهب وازدياد حجم الديون العامة والخاصة، ما أثر على حجم المدخرات القومية وصعوبة تمويل الاستثمارات والمجهود الحربي.
كذلك شملت الأزمة تدهوراً في الخدمات العامة مثل التعليم والصحة والسياحة، بالإضافة إلى تدهور الأوضاع الأمنية. وأدى هذا التدهور إلى تفشي التجارة غير الرسمية، بما في ذلك التعامل بالعملات الأجنبية النادرة، وتراجع الناتج المحلي الإجمالي. كذلك تفاقمت المجاعات وانتشر الفقر بشكل واسع، حيث تجاوزت معدلات الفقر نصف السكان وفق تقارير دولية، مع انتشار الأوبئة والأمراض بسبب تدهور البيئة.
وأشار فهمي إلى أن الحرب تسببت في سوء توجيه الموارد الاقتصادية، لا سيما المالية، بعيداً عن متطلبات إعادة الإعمار والتنمية. وأوضح أن أبرز الأزمات الاقتصادية الناتجة عن الحرب تتمثل في التضخم الجامح الذي تجاوز 500 بالمئة منذ بدء الحرب، مدفوعاً بشح العملات الأجنبية وتدهور أسعار الصرف. كما أدى هروب العمالة ورؤوس الأموال إلى أزمة حادة في إنتاج السلع والخدمات، خاصة في القطاعين الغذائي والصحي، فيما تفاقم الفقر والبطالة بسبب انخفاض الأجور. كذلك تدهورت الإيرادات العامة بنسبة تزيد عن 80% نتيجة انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة تتجاوز 50 بالمئة.
واختتم فهمي حديثه بالتأكيد على أن إعادة الإعمار والاستقرار الاقتصادي بعد انتهاء الحرب سيستغرق وقتاً طويلاً، مشيراً إلى أن استعادة الأمن القومي بشكل كامل ستتطلب جهوداً مضنية في المستقبل القريب، إلى جانب استمرار تحديات كبيرة فيما يخص الفجوات المالية والعلاقات الدولية، خاصة مع استمرار العقوبات الاقتصادية.
وإلى ذلك، أوضح الخبير الاقتصادي السوداني، محمد الناير، في تصريحاته لموقع “اقتصاد سكاي نيوز عربية”، أن تحديد حجم الخسائر التي تكبدها الاقتصاد السوداني جراء الحرب لا يمكن تقديره بدقة في الوقت الحالي، مؤكداً أن هذه المهمة ستتطلب تشكيل لجنة فنية متخصصة لحصر تلك الخسائر وتقييمها مالياً. وشدد الناير على ضرورة بدء اللجنة في عملها فوراً، على أن تستمر في مهمتها حتى انتهاء الحرب، مشيراً إلى أن التقديرات الحالية التي تشير إلى أن الخسائر قد تصل إلى 150 مليار دولار تظل مجرد تقديرات غير رسمية.
وأضاف الناير أن الحرب أثرت بشكل كبير على الاقتصاد السوداني، خاصة فيما يتعلق بالموازنة العامة للدولة، إذ تراجعت الإيرادات بشكل ملحوظ، في الوقت الذي ارتفعت فيه معدلات الإنفاق العام بشكل كبير، مما أسهم في زيادة عجز الموازنة. كما أشار إلى غياب تقارير دقيقة حول الأداء الاقتصادي في ظل الحرب، ما يجعل الوضع أكثر تعقيداً.
وتابع الناير بالقول إن صمود الاقتصاد السوداني رغم الحرب يرجع إلى الموارد الطبيعية الكبيرة التي يمتلكها السودان، والتي لم تُستغل بالشكل الكافي حتى الآن، بالإضافة إلى الموقع الاستراتيجي للسودان وساحله المطل على البحر الأحمر، ما يجعله في مركز الصراعات الإقليمية والدولية.
وفيما يتعلق بإنقاذ الاقتصاد السوداني، شدد الناير على أهمية اتخاذ مجموعة من الإجراءات والسياسات الضرورية، منها وضع خطة على المدى القصير وأخرى على المدى المتوسط والبعيد، بحيث يبدأ تنفيذها فوراً وتستمر حتى بعد انتهاء الحرب. وأكد أن هذه الخطة يجب أن تكون شاملة لمعالجة المشكلات الاقتصادية الحالية مثل تدهور قيمة العملة الوطنية وارتفاع معدلات التضخم والبطالة، وهي مؤشرات تفاقمت بشكل كبير مع الحرب.