في مساءٍ يضيقُ بالمرارات، وتحت سماءٍ يثقلها دخان الحرب، سقطت مدينة “بابنوسة” كما تسقط المدن المنهكة حين تُغلق أمامها دروب النجاة، لم يكن سقوط المدينة مجرّد حدث عابر في سجلّ الصراع، بل كان أشبه بانطفاء قنديلٍ ظلّ يقاوم الريح طويلًا .. هناك في المدينة العمالية، حيث كانت السكك الحديدية تشقّ قلب السهول وتربط الشمال بالجنوب كأنها شرايين وطن واحد، سكنت الأصوات فجأة، ووجمت الأرض تحت وقع خطوات القادمين الجدد.
بابنوسة، المدينة التي طالما وقفت على حافة التاريخ شامخة رغم التهميش والنسيان، وجدت نفسها وجهًا لوجه مع واقع جديد، رحلت عن صخبها القديم، عن هدير القطارات وطمأنينة الأسواق، لتستيقظ على واقعٍ تصنعه فوهات البنادق، ومع دخول قوات الدعم السريع للمدينة، تبدّلت ملامح المكان؛ ولا يزال مواطني المدينة يترقّبون مصير لا يزال يتشكّل بين يدَي القوّة والغموض .. هكذا دخلت مدينة “بابنوسة” فصلًا جديدًا من حكايتها، فصلًا يكتبه الدخان قبل الكلمات، وتُشعلُه المعارك قبل الأقلام؛ فصلًا يعيد رسم الجغرافيا بلون الحرب.
وفي سياق التطورات العسكرية أعلنت قوات الدعم السريع، أمس الاثنين 1 – ديسمبر – 2025، أنّها سيطرت على الفرقة “22” مشاة في بابنوسة، وهي آخر معقل للجيش في المدينة، ويعكس هذا التطور تحوّلًا جوهريًا في السيطرة على ولاية غرب كردفان، فقد باتت المدينة بفضل موقعها السككي واللوجستي تحت نفوذ قوات الدعم السريع، ما قد يؤسس لمزيد من العمليات العسكرية في دارفور والمناطق المحيطة.
وفي خضم الحرب الجارية منذ 15 – أبريل – 2023 بين القوات المسلحة وقوات الدعم السريع، أصبحت مدينة بابنوسة بوابة مهمة نحو دارفور، السيطرة عليها تعني ضمان وصول للقوات إلى عمق دارفور أو قطع هذا الطريق على الطرف الآخر، وفي السياق قالت مصادر عسكرية إن سقوط مدينة بابنوسة يعني سقوط آخر معاقل كبيرة للجيش في غرب كردفان، ما قد يفتح الطريق أمام تمدد قوات الدعم السريع في الإقليم، ويذكر أن المدينة كانت تضم مقرّ قيادة فرقة عسكرية “الفرقة 22 مشاة” ما يضفي عليها بعداً رمزياً ولوجستياً.
تقع مدينة بابنوسة في ولاية غرب كردفان، وتشتهر المدينة بأنها كانت مركزًا اقتصاديًا مهمًا منذ منتصف القرن العشرين، وتميّزت المدينة بوجود أول مصنع لإنتاج الحليب المجفف في المنطقة عام 1963.ولكن الأهم من ذلك تعتبر محطة إستراتيجية للنقل والتجارة عبر السكك الحديدية، حيث تصطف فيها خطوط ربط حيوية تربط الغرب بشمال السودان، وجنوبه.
وتقع مدينة بابنوسة على خط سكة حديد يربط عدة مدن رئيسية: من بينها نيالا في جنوب دارفور، وواو في دولة جنوب السودان، وكذلك مدن في ولاية شمال كردفان والنيل الأبيض مثل الأبيض وكوستي حتى مدن سنار ومدني وبورتسودان، وهذا الربط بالسكك الحديدية يجعل من بابنوسة محطة استراتيجية لوجستيًا: إذ يمكن عبرها نقل الأشخاص والبضائع وحتى الإمداد بين غرب السودان وجنوبه، وربما إلى ما وراء الحدود مع جنوب السودان.
وبالنسبة للقيمة الإضافية لمدينة بابنوسة التي أصبحت في يد قوات الدعم السريع، فإن السيطرة عليها تعني السيطرة على شبكة سكك حديد استراتيجية، وبامتلاك بابنوسة، تتحكم قوات الدعم السريع في ممر نقل حيوي بين السودان وجنوبه، ما يمكنها من تحريك الإمدادات أو القوات بحرية نسبية.
وتمثل المدينة رافعة نفوذ في غرب السودان “دارفور وكردفان” والسيطرة على بابنوسة تعني ضعف قدرة الجيش على استخدام بابنوسة كمنطلق لدخول دارفور، وفتح نافذة للدعم السريع للتوسع جنوبًا أو غربًا، كما تمثل المدينة رمزية معنوية وعسكرية، وسقوط آخر معقل للجيش في غرب كردفان يمثل ضربة معنوية، وعلامة على ضعف قدرته على الصمود في المنطقة، مما يعزز مكانة قوات الدعم السريع، وتمثل المدينة قاعدة لوجستية واسعة يمكن أن تُستخدم كمركز إمداد، وتوزيع أسلحة ولوجستيات، أو كنقطة انطلاق لحملات عسكرية مستقبلية.
مدينة بابنوسة لم تكن مجرد مدينة صغيرة في ولاية غرب كردفان؛ بل كانت حلقة وصل محورية بين السودان وشمال أفريقيا مع الجنوب، اقتصادياً، لوجستياً، وعسكرياً. سقوطها تحت بيد قوات الدعم السريع يغيّر خريطة النفوذ في غرب السودان وجنوبه، وقد يشكّل نقطة انطلاق لتوسع عسكري عبر السكك الحديدية والممرات الجنوبية.