Fajr Press

التعليم في السودان .. الدخول في حلبة الصراع

تقرير - فجر برس

منذ اندلاع الحرب في السودان في 15 – أبريل – 2023 دخلت المنظومة التعليمية في البلاد، بشقّيها العام والعالي، في حالة شلل شبه كامل، ولم تقتصر الحرب على تعطيل العملية التعليمية فحسب، بل دفعت بها إلى قلب الصراع، لتصبح المدارس والجامعات ساحةً للانهيار المؤسسي، ومرآةً لمعاناة ملايين الطلاب والمعلمين والأسر، وأدّت العمليات العسكرية المتواصلة إلى تدمير واسع لمدارس وجامعات ومراكز تدريب، إما بالقصف المباشر أو باستخدامها كمقار عسكرية.

وتُشير شهادات العاملين في القطاع إلى أن عدداً كبيراً من المؤسسات التعليمية في الخرطوم وبقية ولايات السودان، وخصوصا ولايات دارفور وكردفان أصبح خارج الخدمة بشكل كامل، بينما تمّ نهب محتويات مدارس أخرى وتحويل بعضها إلى ملاجئ للنازحين، مما جعل العودة إلى الدراسة أمراً بالغ الصعوبة، وتوقفت الدراسة في أغلب ولايات السودان لأكثر من عامين، باستثناء محاولات محدودة لاستئناف التعليم في بعض المناطق الآمنة نسبياً، الجامعات الحكومية والخاصة أغلقت أبوابها، بينما واجهت المدارس الحكومية مصيراً مشابهاً مع عدم قدرة الأسر على تحمل تكاليف البدائل الخاصة أو الإلكترونية.

وفي سياق متصل بإنهيار المنظومة التعليمية في السودان أعربت لجنة المعلمين السودانيين عن بالغ قلقها وأسفها إزاء خروج السودان من التصنيف العالمي لجودة التعليم، واعتبرت الخطوة مؤشراً خطيراً على حجم الانهيار الذي تعيشه منظومة التعليم في البلاد نتيجة الحرب والاضطراب السياسي وتراكم الفشل الإداري خلال السنوات الماضية، وقالت اللجنة في بيان صادر عن مكتبها الإعلامي إن تدمير المدارس وتشريد الطلاب والمعلمين وانهيار البيئة التعليمية تركت العملية التعليمية “فريسة للفراغ المؤسسي والقرارات المرتجلة” في وقت ما تزال فيه عناصر النظام السابق – بحسب البيان – تسيطر على مفاصل القطاع وتعيد إنتاج سياسات إقصائية أثّرت على كفاءة المؤسسات التربوية.

وأشار البيان إلى أن الحرب أسهمت في تحويل المدارس إلى مواقع للصراع وفرض توجهات سياسية على المناهج والطلاب، في “انتهاك لحق التعليم وحياديته” بالتزامن مع تراجع غير مسبوق في الدعم الحكومي وتدهور أوضاع المعلمين وانسحاب الكفاءات المهنية دون تدخل رسمي يوقف هذا التدهور المتسارع، ودعت اللجنة إلى الإسراع بإصلاح شامل للقطاع التعليمي، يبدأ بتشكيل لجنة وطنية مستقلة ومحايدة لإدارة ملف التعليم في جميع أنحاء البلاد، على أن تتولى وضع السياسات العاجلة والبعيدة المدى والتنسيق مع الشركاء الإقليميين والدوليين، إلى جانب إعادة الانضباط الأكاديمي واستقرار التقويم الدراسي.

وشددت اللجنة على ضرورة تحييد التعليم وإبعاده عن دائرة الصراع، مؤكدة أن المدارس والمناهج والإدارات يجب أن تظل مؤسسات وطنية غير قابلة للتسييس أو التوظيف في الحرب، وطالبت بوضع خطة لإعادة تأهيل المدارس المدمرة، ودمج الأطفال خارج النظام التعليمي، ورفع مخصصات التعليم، وتحسين أجور المعلمين، وتطوير المناهج بما يواكب متطلبات العصر، وحثّت لجنة المعلمين جميع مكونات المجتمع – منظمات مدنية، أكاديميين، طلاب، وأولياء أمور – على التكاتف لحماية حق الأطفال في تعليم حر وآمن وعادل، مؤكدة أن “مستقبل السودان لا يمكن استعادته من دون استعادة التعليم لدوره، وصون المدرسة، وتكريم المعلم، وحماية العملية التعليمية من العبث والتسييس والحرب”.

وكان أحد أبرز تداعيات الحرب توقف رواتب المعلمين في التعليم العام والعالي لفترات طويلة، الأمر الذي دفع كثيراً منهم للبحث عن أعمال أخرى أو النزوح مع أسرهم، وأدّى هذا الوضع إلى انهيار البيئة المهنية والتعليمية، إذ لم تعد المدارس قادرة على استبقاء كوادرها، كما انقطع التدريب المهني والبرامج الأكاديمية في الجامعات.

ومن أخطر نتائج الحرب حرمان آلاف الطلاب في دارفور وكردفان من الجلوس لامتحانات الشهادة الثانوية لثلاثة أعوام متتالية، فيما أغلقت مراكز الامتحانات هناك، وتعذّر الوصول إلى بعضها بسبب القتال أو انعدام الأمن، كما فقد العديد من الطلاب وثائقهم نتيجة النزوح والنهب والحرائق، وهذا الحرمان المتراكم والمستمر ينذر بضياع مستقبل جيل كامل من الشباب.

واتهمت بعض أسر وطلاب قادمون من دارفور وكردفان الجهات التعليمية التابعة لحكومة الأمر الواقع في بورتسودان بممارسات فرز وتمييز عنصري، تمثلت في رفض تسجيل الطلاب، وضع عراقيل إدارية، أو التأخر في إصدار أرقام الجلوس الخاصة بالامتحانات وعدم إستخراج الشهادات، وقد أثارت هذه الممارسات غضباً واسعاً، إذ تُعدّ انتهاكاً لحق التعليم وتناقضاً مع القوانين الوطنية والدولية.

فيما أصبحت الجامعات السودانية، التي كانت تضم مئات الآلاف من الطلاب، شبه متوقفة، توقفت الدراسة والامتحانات، وتعطّلت البحوث الأكاديمية والمراكز العلمية، ونزح آلاف الطلاب والأساتذة إلى دول الجوار، وانهارت البنية التحتية التقنية والإدارية، ما جعل خيار التعلم الإلكتروني محدوداً وصعب التنفيذ.

ورغم قتامة المشهد، يمكن إتخاذ عدد من الخطوات العملية للإسهام في إعادة بناء القطاع التعليمي، منها على سبيل المثال، إعادة تأهيل المدارس والجامعات المتضررة عبر برامج دولية ووطنية مشتركة لإعمار البنية التعليمية، وصرف رواتب المعلمين بصورة عاجلة، وتقديم حوافز مالية مؤقتة لضمان عودتهم إلى العمل، وفتح مسارات بديلة لطلاب دارفور وكردفان تمكّنهم من الجلوس للامتحانات عبر مراكز خارج مناطق النزاع أو عبر لجان طوارئ تعليمية.

وفي السياق طالب خبراء في التعليم بضرورة إنشاء نظام طوارئ تعليمية موحّد يعتمد التعليم المرن “مدمج – أونلاين – مراكز بديلة” ووقف ممارسات التمييز والتحقيق المستقل في اتهامات الفرز العنصري الذي تمارسه حكومة الأمر الواقع في بورتسودان، وضمان الحق الدستوري في التعليم، والشراكة مع منظمات الأمم المتحدة والجهات المانحة لتمويل برامج دعم الطلاب، وتوفير الكتاب المدرسي والوسائل التعليمية، وإعادة تشغيل الجامعات تدريجياً عبر التعليم الإلكتروني ومراكز الدراسة المؤقتة خارج مناطق النزاع، وإعتماد برامج نفسية واجتماعية للطلاب المتضررين من الحرب لمعالجة الصدمات وتمكينهم من العودة إلى البيئة التعليمية.

حسناً، هكذا دخل التعليم في السودان حلبة الصراع مضطراً، ووجد الطلاب والمعلمون أنفسهم في مواجهة عنفٍ يهدد مستقبل جيل كامل، ورغم خطورة الوضع، فإن إعادة بناء القطاع التعليمي ممكنة إذا تضافرت جهود المجتمع المحلي والدولي، وتم الاعتراف بأن التعليم ليس رفاهية، بل ركيزة أساسية لبقاء المجتمع واستقراره، وإن إنقاذ التعليم هو إنقاذ السودان نفسه من مستقبل قاتم يمتد أثره لعقود.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.