عاش الإنسان في أول حياته الإجتماعية *كموجود مُنتج* في عالم بدائي *مشاعي لا طبقي* وهو لا يعرف من الوجود سوى *غرائزه البدائية وحاجاته الأولية* المتمثلة في الخبز والماء والمأوى والنار التي تدفء قدميه الحافيتين. عاش الإنسان مع أخيه الإنسان بمحبة وكان سوقهم الغابة وسقفهم السماء. لا أحد *يملك* أكثر من الآخر ولا أحد يتميز عن الآخر بنقاء عرق أو سمو دين أو لون. ولكن حينما *إنحنى الإنسان* إلي الأرض ليزرعها حدثت ثورة عارمة وكأنه قد ضغط على زر بالصدفة فحرك نار التناقضات لتتصارع الأضداد لتنفي بعضها بعضاً. كأنه حين *غرس* أول بذرة، قد *غرس* معها *بذرة التفاوت*. وتحولت فجأة الأرض الحنونة الصامتة الممتدة إلي ما لا نهاية إلي *شئ ثمين يمكن إمتلاكه*. وفي هذا اللحظة التاريخية الفارقة بدأت الحكاية مثلما بدأت القصة في الفيلم المصري (*البداية*) للنجم أحمد ذكي وجميل راتب. بدأ البعض بدون أي مبرر سوى أنانيتهم وطموحهم الشخصي يقولون *هذه الأرض ملكنا* وجعل الآخرين يعملون فيها بأيديهم كعمال (*لا يملكون*) وللمفارقة وبدون أي مبرر قَبِل العُمال تلك العبودية كأول خلية عبودية وذلك بسبب قبولهم *بالوعي الزائف* حين جعل شيوخ الملاك الجدد وعيهم غائباً.
في تلك اللحظة من التاريخ *وُلدت السلطة و وُلد معها نقيضها* وتلك هي الوهلة الأولى في التاريخ التي تذوق فيها الإنسان الذي سطى على الأرض وإمتلكها طعم السلطة وعرف العاملون فيها بلا أجر *مرارة الخضوع والعبودية*. لم يحصل ملاك الأرض الجدد عليها بقوة السلاح بل كان سلاحهم *تغبيش وعي العمال بالوعي الزائف*. كما لم تكن السلطه في تلك الحقبة سيفاً أو بندقية بل كانت *سنبلة وحبة قمح* التي بها إمتلك الملاك الجدد قدرتهم على أن يجعلوا العاملين ضحايا الإستغلال الجوع او الشبع المشروط بالخضوع للسلطة. في تلك اللحظة التاريخية الفارقة بدأت العلاقة بين البشر (*أبناء البطن الواحدة*) تتشكل وتأخذ صورتها الأولية على أساس من يمتلك الأرض ومن لا يمتلك الأرض وبجملة (*من يملكون ومن لا يملكون*) أو بالتعبير الأكثر خصوصية أصبحت العلاقة علاقة إنتاج بين *من يمتلك الوسيلة ومن يملك الكدح والجهد*. في ظاهر حقل التفاوت البسيط هذا تخلقت الخلية الأولية للطبقات ، طبقات صغيرة خفية إبتداءً ، ثم كشفت عن ملامحها في ظهور التمايز بين أفراد المجتمع الواحد والطبقات. فقد تميز من يملكون الارض *بالقوة* وعُرف من يعملون فيها *بالتعب*. فأصبح عرق العامل يُقاس وأصبح تعب العامل وكدحه يُشترى. ومن رحم هذا التفاوت البسيط *نبتتْ* أول بذرة للصراع الطبقي فالعامل يريد ان يُكافأ جهده بما يتسحق ويجعله يعيش بكرامة وصاحب الأرض يريد ان يزيد غلاله وثروته، وتكدست الثروات في أيدي القلة من الملاك بينما بقِيَّ الكثيرون من الناس يرفعون أياديهم ممدودةً نحو السماء طلباً للعدل وحميد ينشد ” *الجاتـنا جاتـنا من الأرض ما جاتـنا من تالي السماء*” أو ما جاتنا من سابـع سماء كـما تعمد تحريفها أحد الأصدقاء ليكون أكثر وضوحاً. وقد صدق من قال (*أن تاريخ أي مجتمع حتى الآن ليس سوى تاريخ صراع طبقات*).
في هذه التحولات النوعية في العلاقات بين البشر أصبحت الزراعة تِجارة وصارت التجارة تشكل نفوذاً مؤثراً وفاعلاً وصار النفوذ سلطة حاكمة أنانية وباطشة ومن رحم تلك التناقضات وصراعها وُلد الظُلم وذُبحت العدالة البسيطة التي عاشها الإنسان في بدايته جنباً إلي جنب مع أخيه الإنسان حيث لا أحد يملك أكثر من الآخر. ضاعت العدالة وبالنفوذ والسلطة أصبح من يملك الأرض يملك معها مصائر الناس وأصبح العدل ليس سوى كذبة لطيفة ومقدسة يُفتى بها للفقراء في المساجد والإذاعات الدينية كي يناموا دون غضب. الثوريون تلامذة هيغل هم الذين استيقظوا مبكراً على أصوات أنين الكادحين من الظُلم وقد بدأوا يرون الحقيقة والحقيقة أن العالم قد إنقسم إلي طبقتين هما طبقة من يملكون وطبقة من لا يملكون وأدركوا بوعيهم الطبقي أن الإنسان لم يعُد مُتساوياً مع أخيه الإنسان ولا حتى في الأرياف البعيدة. هذا الواقع في تلك الحقبة من التاريخ، نعيشه اليوم في السودان في المدن وفي الريف. هذا الصراع ينبغي على الجميع فهمه بوعي طبقي كامل كصراع بين *ظالمون ومظلومون*، ومقولة (*أن تاريخ أي مجتمع حتى الآن ليس سوى تاريخ صراع طبقات*) مقولة حقيقية تعبر وتفسر واقعنا المعاش وتجهزنا لخوض هذا الصراع بوعينا الثوري.
هذا هو *الصراع الطبقي* الذي تعيشونه في الحقول والبيوت الفقيرة والطرقات الترابية حيث كل الناس يكدون دون أن يحصلوا على *مُقابل عادل* والعدالة غير إنها أصبحت كذبة البرجوازية اللطيفة التي تُقدم للفقراء، *أصبحت* الكلمة ذاتها تُقال بلا روح وبلا معنى. علينا جميعاً ان نتحرر من شَرَكِ الوعـي الزائف ونتسلح بالوعـي الكامل والطـبقي. واقعنا السوداني اليوم لا يحتاج إلي الكثير من المعرفة بالتحليل الطبقـي كــي يُفهم. *فمن كان قوياً* ، كان قوياً بإختطاف مؤسسات الدولة وحكم بالبندقية الباطشة التي *قدمت* الولاء للسلطة البرجوازية *على* الولاء للوطن ولهموم ومصالح غالبية شعبه المسحوق *ومن كان ضعيفا* أطاع مُهللاً ومكبراً للظُلم وللطُغاة ومستنفراً لهم في حربٍ الخاسر الوحيد فيها *هم الفقراء والكادحين* من أبناء شعبنا بعد تدمير الوطن. لابد للشعب من كسر *المرآة القديمة* التي تمثل الجدار الناري وجدار الحماية للطغاة ووكلاء الرأسمال الأناني. مَنْ مِنْ شعبنا لا يرى بعينه هو ويدرك بوعيه الكامل حقيقة *إنقسام المجتمع* الى *طبقتين* طبقة في *الأعلى* تتشكل من أصحاب السلطة والثروة والنفوذ وفي *الأسفل* دون خط الفقر ترزح وتإنُّ طبقةِ الغلابة الفقراء المهمشين من اولئك الذين يعملون بأجسادهم وبأرواحهم ليحملوا الوطن كله على أكتافهم. هناك صراع صامت بين الطبقتين ولا أحد يسمي هذا الواقع *صراعاً طبقياً* (طبعاً) ولكنه هذا هو *الصراع الطبقي* بشحمه ولحمه ونيرانه المشتعلة في كل بيت جائع وفي كلِّ يدٍ مُتعبة لا تجدُ ما تُسد به الرَمقْ حين الليل الشتوي يسدل ستاره والبرد القارص يتسلل عبر مسمات جلود الأطفال والشيوخ إلي كريات الدم الحمراء وعيون الأمهات الثكالى تسهر على الامل بوقف الحرب *وبالسلام والحرية والعدالة*. نقول لجماهير شعبنا ، للجوعى، للنازحين واللاجئين *تعالوا* ( إيد على إيد) *وإتحدوا* لنبني جبهتنا العريضة *ضد الحرب ولبناء السلام* وأعلموا أن هذا التفاوت ليس قـدراً بل صِناعة بشرية يُمكن تحطيمها وتفكيكها وتخطيها بتجميع جهود الفقراء والكادحين وتوحيد وعيهم الكامل بحقيقة هذا الصراع . وليعلم شعبنا العظيم أن هناك دائما من أبناءه الطليعيين مَن يؤمن بحقه في الحياة الكريمة كإيمانه بان هذا التفاوت ليس قدراً بل صِناعة بشرية يمكن كسرها وحين يَتجمَّعْ الفقراء حـول أهدافهم سيكتشفون في تلك اللحظة قوتهم ويشعرون بأن الأمل في التغيير ليس حلماً بعيداً ولنا في تاريخنا عبرة فقد أنتصر شعبنا في ثورة ديسمبر المجيدة اللحظة التاريخية الفارقة التي قال شهداءها عنها *إنها ستكون آخر الثورات من أجل الحرية ونهاية الإنقلابات العسكرية في السودان* .. وندائنا أن *تعالوا أيها الجوعى .. تعالوا أيها الفقراء وإتحدوا* لنمدُ الكفَ نحوِ الشمسِ بالدفءِ. معاً سننتصر وسنهزم أصوات المدافع وقرقعات البنادق بل سنهزم دعاة الحرب وجنرالاتها والمتكسبين من إستمرارها ونفضح خطابات الكراهية والعنصرية ونقدم البديل الوطني دولة الحرية والمواطنة والعدالة الإجتماعية.
النظام القديم ظل يحاول دائما أن يجدد جلده تحت عناوين جديدة ويغير وجهه ويلبس قناعاً جديداً ليبقي في المشهد مسيطراً عليه كما هو لكن خاب فألهم فثورة ديسمبر كانت الشرارة الحمراء الأولى في وعي هذا الشعب بحقيقة هذا الصراع وبإنه الصراع الطبقي وقد إدرك الانسان السوداني بإنه مظلوم وان هذا الظُلم ليس أمراً طبيعياً وليس قدراً يُسلم به فالشعب أصبح على درجة متقدمة من الوعـي الكامل وقد إستيقظ الوعي الطبقي وسيبدأ التاريخ بالتحرك إلي المستوى الأعلى النافي للنفي. فالقصة ما قصة شقاء أو تعب بل تحولاً عميقاً في بنية العلاقات الجدلية في معنى الوجود ذاته. الانسان السوداني عايش كل الظروف التي تجعله يعي ويفهم إنه لن يقبل بإستغلاله وإعتباره أداه في أيدي الطغاة والطائفيين والقبليين وشيوخهم المأجورين لتحقيق أهدافهم الطبقية في السلطة والثروة بل سيكسر مرآتهم التي صنعوها ويستعيد مرآته ليرى نفسه عزيزة وينخرط في جبهة عريضة للتغيير الجذري.
mhalla45@hotmail.com – December 19, 2025