Fajr Press

إذا لم تتخطَ الثورة الخطوط الحمراء المصرية كيف تصبح ثورة؟!

كتب - محمد المختار

البيان المستفز الصادر عن الحكومة المصرية، عقب استدعاء الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان إلى القاهرة، وتنصيب الخديوي عبد الفتاح السيسي حاكما عاما على السودان، لا يمكن قراءته إلا بوصفه إعلان وصاية سياسية صريح على السودان، وتكريسا لعقلية خديوية موروثة لا تزال تنظر إلى السودان كحديقة خلفية لمصالح الدولة المصرية، وليس كشعب حر مستقل يملك قراره ويصوغ مستقبله بإرادته. إنه ليس مجرد بيان مثل البيانات المصرية السابقة التي يختبئ خلفها الموقف المصري الحقيقي بالعبارات الدبلوماسية المحفوظة، بل وثيقة احتلال رسمي وامتدادا للعقلية المركزية القاهرية، التي تتعامل مع السودان ليس بوصفه دولة ذات سيادة، بل كعمق أمني واستراتيجي خاضع لمحددات ترسمها الأجهزة السيادية المصرية. هذا البيان لا يمثل مجرد موقف دبلوماسي، بل هو محاولة لترسيم حدود الحرية المسموحة للشعب السوداني، وهو ما يتناقض جوهريا مع مفهوم الثورة.

إن ما ورد في وثيقة الخديوي من خطوط حمراء، وحق اتخاذ التدابير اللازمة، ورفض الكيانات الموازية، لا يعكس حرصا على السودان، بل يعكس قلقا مصريا من تحرر السودان من قبضة الدولة المركزية التي طالما خدمت مصالح القاهرة التي ترى ما هندسته تاريخيا يتصدع وينهار. فمصر التي دعمت انقلاب البرهان على الحكومة الانتقالية، ووفرت غطاءً سياسيا وعسكريا لتحالف الجيش مع الإخوان المسلمين، هذا الجيش الذي تحول لمحض جناح عسكري للحركة الإسلامية وأمانة من أمانتها، لا تملك اليوم أي شرعية أخلاقية أو سياسية للحديث عن وحدة السودان أو مؤسساته، وهي التي ساهمت في تقويضها. وعندما تتحدث القاهرة عن خطوط حمراء تشمل منع المساس بمؤسسات الدولة التي هي في الحقيقة الواجهة العسكرية والسياسية للنظام القديم، والملكية الخاصة للإخوان كما يقول الجنرال المخلوع السابق عمر البشير في إحدى سلسلة تسريبات الأسرار الكبرى التي عرضتها قناة العربية، فهي تضع الثورة السودانية في مأزق وجودي. فالثورة في جوهرها هي عملية هدم وإعادة بناء، وهدم للبنى السلطوية الموروثة وتفكيك لتمكين الإخوان من مفاصل الدولة السودانية ومؤسساتها، لذا فإن اعتبار الحفاظ على هذه المؤسسات بوضعها الحالي خطا أحمرا مصريا، هو في الواقع ضوء أخضر، لاستمرار القمع وعسكرة الدولة بعد أن فشل عامل الخديوي البرهان في المسعى مع الإخوان، وإجهاض لحلم الحكم المدني رغم المحاولات المصرية المتكررة لتحويل هذا الحلم لكابوس.

هذا البيان المصري في كل كلمة وفي كل حرف من حروفه لا يخفي عداءه للحكم المدني، بل يضعه في مواجهة مباشرة مع ما يسمونه الأمن القومي المصري، وكأن التحول الديمقراطي والحكم المدني في السودان تهديد وجودي لمصر. هذا الموقف يكشف عن جوهر السياسة المصرية في السودان بدعم العسكر في جيش لم يُبقي فيه إخوان السودان غير صورة ذهنية لم تعد موجودة على أرض الواقع، كون خيال المآته الذي أمامنا قد وصلت مصر لقناعة بشأنه، أنه لا يستطيع أن يهش لها نسور الثورة في نسختها العنيفة من حديقتها الخلفية، بعد أن قوضت الحركة الإسلامية ومصر نفسها النسخة السلمية من الثورة، وبالتالي رفض أي انتقال ديمقراطي وتغيير حقيقي، ينهي الاستتباع المصري والعلاقة الطفيلية التي تمتص من خلالها مصر موارد ومياه السودان بشراهة، وما الحديث المصري المتكررعن دعم مؤسسات الدولة السودانية ليس سوى غطاء لتمكين العسكر، وإعادة إنتاج الدولة الأمنية التي ثار عليها الشعب السوداني. فمصر لا تدعم مؤسسات هي أول من يعلم عدم أهليتها، بل تدعم من يضمن لها استمرار النفوذ، ولو على حساب دماء السودانيين ومستقبلهم.

في الحقيقة على مصر أن تعي جيداً حقيقة أن الثورة السودانية، التي انطلقت من رحم المعاناة، والحروب، والدماء، والدموع، والاقصاء، ليست مجرد احتجاج على نظام، بل هي مشروع تحرر وطني شامل يقوم على ثلاثة قواعد هي الحرية، والسلام، والعدالة، يسعى لتفكيك بنية الدولة المركزية التي تأسست على إرث استعماري، وارتبطت تاريخيا بعلاقات تبعية مع القاهرة. هذه الثورة لا يمكن أن تكتمل دون كسر هذه التبعية، ودون إعادة تعريف العلاقة مع مصر على أسس الندية والاحترام المتبادل، لا على أساس الوصاية والهيمنة، وقد عبر عن ذلك رئيس وزراء الحكومة الانتقالية الدكتور عبد الله حمدوك، في محاضرة بمركز الاهرام للدراسات الاستراتيجية بالقاهرة، وكان ذلك أحد الاسباب التي دفعت القاهرة للتعجيل بالانقلاب عليه.
أما التلويح المصري باتفاقية الدفاع المشترك، التي أُلغيت منذ عقود ونفضها بيان الخديوي كما تنفض المومياء من الغبار، فهو استدعاء فج لشرعية ميتة، ومحاولة لإحياء أدوات الهيمنة القديمة، فالسودان اليوم ليس هو سودان الخمسينيات، والستينيات، والسبعينيات، ولا الشعب السوداني هو ذلك الذي يُدار بالوصايا. إن استدعاء هذه الاتفاقية في هذا التوقيت، بعد أن ادركت القاهرة أن الجيش الذي يمتطي الإخوان ظهره ويسيطرون عليه بالكامل قد أوشك على الانهيار الشامل، وبعد انكشاف الدور المصري في دعم آلة القتل، ليس سوى محاولة يائسة لتبرير التدخل في شؤون السودان الداخلية، وتثبيت نظام عسكري يخدم مصالح القاهرة لا مصالح الشعب السوداني.

إن إشارة البيان إلى اتفاقية الدفاع المشترك التي ألغاها رئيس وزراء الحكومة الديمقراطية الثالثة الراحل الصادق المهدي سابقا تعبيرا عن رفض التبعية لمصر، هي محاولة لشرعنة التدخل العسكري المباشر تحت غطاء قانوني متهالك، لكن في جوهر هذا الاستدعاء يعكس العقلية الخديوية التي لا تعترف بكل ما هو نابع من إرادة الشعب السوداني ومن يمثلونه بطوع اختيارهم، وترى في السودان مجالا حيويا يتطلب حاكما عاما من القاهرة، متجاهلة تماما المتغيرات الجيوسياسية في المنطقة العربية والأفريقية التي أثبتت أن السياسة المصرية الخارجية منذ فترة في ملفاتها الحساسة والاسترايجية فاشلة بامتياز، وخاصة بعد إخفاقات ملف سد النهضة، الذي تسعى مصر من وراء التلويح بتدخلها في السودان الذي تسميه عمق استراتيجي، لتهديد استراتيجي للشقيقة إثيوبيا، وهي الأخرى حسب جميع المؤشرات لن تقف مكتوفة الأيدي لأي تهديد أو تحرك مصري، تتمناه أطراف أخرى أن تضع مصر رجلها الثانية في المستنقع السوداني، ليعود هزبر مصر قطا أليف.

يزعم البيان الذي يمثل نسيج فريد من البلطجة والفهلوة المصرية، القلق على حقوق الإنسان في الفاشر، بينما يجدد دعمه المطلق لشرعية عسكرية والغة في انتهاكات وجرائم حرب واسعة وصلت لاستخدام الأسلاحة الكيمائية والأسلحة المحرمة دوليا، وفي تقويض الانتقال الديمقراطي بدفع من الفلول. لذا فإن الموقف المصري المزدوج كوسيط علني وداعم خفي للعسكرة بات مكشوفا يقدح في وجودها ضمن دول الرباعية، فكيف يمكن للقاهرة أن تدعي دعم استقرار السودان وهي ترفض بشكل قاطع أي تحول ديمقراطي حقيقي قد ينتج سلطة سودانية مدنية مستقلة لا تدور في فلك المصالح الاستراتيجية الضيقة لمصر؟

لذلك نعيد ونكرر، إن الثورة السودانية، إذا لم تتجاوز هذه الخطوط الحمراء المصنوعة في القاهرة، فلن تكون ثورة، كما أن الثورة التي تخشى كسر التبعية ليست ثورة، بل إصلاح داخل قفص، والثورة التي لا تضع السيادة الوطنية في قلب مشروعها، ستُختطف مرة أخرى. لقد آن الأوان أن يُقال لمصر بوضوح وصوت عالي وحاسم السودان ليس محافظة مصرية، ولا شعبه قطيع يُقاد من القصر الجمهوري في القاهرة، نعم من حق مصر أن تحمي أمنها القومي، لكن ليس على حساب إرادة السودانيين، ولا عبر دعم أنظمة القمع والانقلابات، ومن حق السودانيين أن يقرروا مصيرهم، دون وصاية، ودون بيانات مستفزة تصدر من عاصمة لم تعترف يوما بثورتهم، بل عملت على إجهاضها، فالثورة التي تلتزم بحدود رسمها الجار المُستتبع هي إصلاح تحت الوصاية، وليست تغييرا جذريا. إن استعادة السودان لقراره الوطني تبدأ من تفكيك علاقة التبعية التاريخية، والتأكيد على أن شرعية الحكم تُستمد من الشارع السوداني وتنوعه، لا من بيانات تصدر من الاتحادية.

لذلك فإن بيان القاهرة الأخير لا يفتح باب الحل، بل يغلقه كما سد جيش الإخوان الذي الذي يمجد العنف والبندقية كل سبل الحل والحياة أمام الشعب السوداني، وفتح عليه أبواب الجحيم، ولا يدعم السلام، بل يكرس الاصطفاف مع طرف واحد في حرب معقدة داخليا وكذلك تقاطعتها الخارجية، وهو في جوهره، إعلان فشل للدور المصري، وانكشاف لوجهه الحقيقي. وعلى قوى الثورة السودانية أن تعي أن معركتها ليست فقط مع العسكر، والإخوان، والبرهان في الداخل، بل مع دولة ترى في الديمقراطية خطرا، وفي السودان حديقة خلفية، فالتغيير والثورة السودانية ماضية ومستمرة ما دامت الأزمة مستمرة، لا تعترف بخطوط حمراء تُرسم في الخارج، ولا تقبل أن تُدار من خلف الكواليس. إنها ثورة شعب، لا انقلاب نخبة أدمنت الفشل.

مصر التي تخسر أغلبت ملفاتها الخارجية، وتساقطت أمامها واحدا تلو الآخرى كما تتساقط أحجار الدومينو، عليها أن تعي أن سودان اليوم ليس سودان 1953، وأن استقرارها الحقيقي يكمن في وجود سودان مدني، ديمقراطي، ومستقل، وليس في دعم واجهات عسكرية نخرت فيها دابة الإخوان تآكلت شرعيتها.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.