Fajr Press

حرب الزغاوة

بقلم - عمار نجم الدين

ومن يجعلِ الضرغامَ بازًا لصيده

تصيَّدْهُ الضرغامُ فيما تصيَّدا

يذكر المؤرخون أن أبا مسلم الخراساني، صانع النصر العباسي، ظنّ أن قربه من الخلافة يحميه، فلما استقرت الدولة قُتل بأمر أبي جعفر المنصور، لأن المركز لا يحتمل شريكًا بعد إنجاز المهمة. هكذا تُدار السلطة: تُستَعمل القوى في الأطراف، ثم تُترك لمصيرها.
ليست الحرب الدائرة اليوم في دارفور حرب الزغاوة، ولم تكن يومًا صراعًا قبليًا بطبيعته، لكنها تحوّلت بفعل قصر نظر سياسي إلى حرب يدفع معظم ثمنها شباب قبيلة الزغاوة، وهي قبيلة كانت تاريخيًا مكوّنًا متعايشًا ومنسجمًا مع محيطه، فإذا بها تُدفع مرة أخرى لدفع فاتورة حروب المركز، لا بوصفها طرفًا سياسيًا، بل كوقود لتصفية الصراع بعيدًا عن قلب الدولة.
المسؤولية هنا لا تقع على جماعة اجتماعية، بل على قيادة سياسية فشلت في قراءة بنية الصراع، وسقطت في فخ الجلابي؛ تلك البنية التاريخية للمركز التي لا تحارب بنفسها، بل تنقل الحريق كلما اقترب منها إلى الهامش.
للمرة الأولى في تاريخ السودان الحديث، كادت الحرب أن تبلغ المركز، لكن هذه المعادلة أُعيد ترتيبها بنجاح شبه كامل: تُحمى مدن المركز، وبسبب قائد قاصر التفكير تُعاد الحرب إلى الأطراف، ويُستنزف الهامش بدمه لا بقراره، بينما تُدار الأزمة من بعيد بعقل بارد لا يدفع ثمنه.
نشأت حركة تحرير السودان كحركة قومية، لا كتنظيم قبلي أو جهوي، ضمّت في صفوفها أبناء دارفور والشرق والشمال والوسط والجنوب، وحملت خطابًا يتجاوز الجغرافيا إلى فكرة السودان العادل. غير أن الانقسام الذي وقع في مؤتمر حسكنيته 2006 م لم يكن خلافًا تنظيميًا عابرًا، بل لحظة كسر حقيقية بدأ معها الانحدار من المشروع الوطني إلى الاحتماء الاجتماعي، ومن السياسة إلى الروابط الأولية.
منذ تلك اللحظة، بدأ التنظيم يفقد توازنه السياسي، ويعوّض ضعف الرؤية بالاقتراب من دائرة القرابة. لم يعد المشروع هو الرابط، بل الثقة العائلية، فتسلّم الإخوة والأقارب مفاصل المال والسلاح والإعلام والقرار السياسي، وتحول التنظيم تدريجيًا إلى بنية مغلقة، لا تُدار بالكفاءة ولا تُحاسَب بالبرنامج، بل تُدار بالولاء الشخصي.
الخطأ الاستراتيجي الأكبر لم يكن في إدارة التنظيم وحده، بل في موقع التفاوض نفسه. ففي مفاوضات جوبا عام 2019، دخل مني أركو مناوي التفاوض لا بوصفه قائد حركة وطنية، بل كممثل لإقليم دارفور فقط، بينما فاوضه سيده الجلابي باسم السودان كله، وباسم الدولة والشرعية. هنا وقع الفخ كاملًا: يحتفظ المركز بالسلطة الحقيقية، ويمنح الإقليم سلطة شكلية، ثم يترك له عبء الصراع ودفع كلفته البشرية.
قبِل مني بهذا الدور، لا لقوة موقعه، بل لضيق أفقه السياسي، وعدم إدراكه لطبيعة الصراع البنيوي بين المركز والهامش. تعامل مع السياسة بعقلية سوق الملجة لا بعقلية الدولة؛ يبحث عن مكسب سريع، عمّا هو الأعلى سعرًا اليوم، طماطم أو عجور أو جرجير، لا عن توازن طويل الأمد. فخسر المشروع، وخسر التنظيم، وخسر الإقليم.
بلغ هذا التقزيم ذروته حين خاطب مني أركو مناوي امس أبناء الزغاوة مباشرة، بلغة الأم، داعيًا إياهم إلى “حماية أنفسهم” و”تحمّل مسؤولياتهم”. هذا الخطاب، مهما حاول صاحبه تبريره، لا يصدر عن حاكم إقليم متعدد الثقافات و العرقيات ، ولا عن قائد مشروع قومي، بل عن زعيم فقد أدوات السياسة ولجأ إلى العصبية كملاذ أخير.

لم يخاطب المساليت، ولا الفور، ولا التنجر، ولا المكونات العربية المنضوية في تنظيمه، رغم أنهم جزء من الإقليم الذي يحكمه، لا لأنهم خارج الصراع، بل لأن التنظيم نفسه انكمش حتى صار يخاطب جزءًا واحدًا من قاعدته، ويترك البقية في الهامش السياسي.
الأخطر من ذلك أن الخطاب انتقل من فكرة التطوع إلى منطق الإكراه المعنوي. فحين يُطلب من جماعة بعينها “تحمّل المسؤولية”، يتحول القتال إلى واجب اجتماعي، ويُختزل الفرد في دوره كمقاتل، لا كمواطن له حق القرار والحماية. بهذا المنطق، أُعيدت الحرب إلى الهامش، ودُفعت الزغاوة إلى واجهة الصراع دون مشروع واضح أو غطاء سياسي أو عسكري حقيقي، بينما استعاد المركز توازنه وأمّن مدنه.
ما يحدث اليوم ليس حرب الزغاوة ضد أحد، بل نتيجة إبادة سياسية بطيئة سببها فشل قيادة وارتهانها لبنية المركز. الزغاوة، كغيرهم من أبناء الهامش، ضحايا هذا المسار، وقدّموا من خيرة شبابهم ما يكفي لإثبات أنهم ليسوا أدوات، بل بشرًا دفعوا ثمن أخطاء سياسية لم يصنعوها.
لم تكن عودة النار إلى دارفور قدرًا محتومًا، بل نتيجة مباشرة لسقوط سياسي في فخ الجلابي. قصر نظر مني أركو مناوي، وتحويله المشروع الوطني إلى خطاب ضيق، مكّن المركز من إعادة ترتيب أوراقه، وترك الهامش يواجه الحرب وحده، ورمى بأبناء قبيلته الأبرياء في أتون حرب بلا استراتيجية سياسية أو عسكرية.
الزغاوة هنا ليست طرفًا في حرب، بل ضحية مرتين: مرة لبنية مركزية اعتادت نقل حروبها إلى الهامش، ومرة أخرى لطموحات قائد فشل في أن يحوّل التضحيات إلى مشروع، فحوّل القبيلة إلى وقود. الزغاوة، كمكوّن اجتماعي متجذّر في تاريخ التعايش والنضال، أكبر من هذا الفشل، وأبقى من هذه اللحظة، ولن تُختزل في أخطاء قائد ولا في حسابات مركز.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.