لكل لاجئ قصة ولكل ناج من جحيم الحرب حكاية تحكيها الجراح والذكريات الطبيب العمومي ابن مدينة الفاشر يسرد لـ”فجر بيرس” رحلته القاسية كطبيب تنقل بين المرافق الصحية في دارفور قبل أن يجد نفسه محاصرا في دوامة العنف والانتهاكات.
وقصة الطبيب ليست سوى واحدة من ملايين القصص السودانية التي تعكس مأساة الحرب حيث يواجه الأطباء والمواطنون على حد سواء التشريد والخطر وسط الحصار المفروض على ولايتي شمال دارفور وكردفان.
من المستشفى إلى المعتقل:
بدأت معاناة الطبيب أيوب إبراهيم منذ أن وطأت قدماه البوابة الشرقية لمدينة الفاشر بعد أن أجبر على الفرار من مستشفى زالنجي عقب أعمال النهب التي طالته حيث كان يبحث عن ملاذ آمن لكنه وقع في قبضة قوات الدعم السريع التي احتجزته لثلاثة أيام.
ويصف أيوب لحظة اعتقاله قائلا: “وقفنا أنا وثلاثة من زملائي ننتظر وسيلة تقلنا إلى الفاشر و لم يكد يمضي وقت طويل حتى توقفت عربة صغيرة حملت أمتعتنا لكن بدلا من إيصالنا اقتادونا إلى مدرسة تحولت إلى ثكنة عسكرية ما كنت أعرفه كفصول دراسية صار زنازين مظلمة تحتشد فيها العشرات ويحيط بها عتاد عسكري ثقيل.”
وداخل إحدى الغرف الضيقة، التي ضمت أكثر من 70 محتجزا عاش الطبيب أيوب تجربة الاعتقال القاسية حيث تم تجريدهم من ممتلكاتهم ولم يكن هناك سوى دلاء لقضاء الحاجة و في أول ليلة له تقاسم مع المعتقلين وجبة ضئيلة من العصيدة على وقع أصوات الرصاص والصرخات القادمة من الغرف المجاورة حيث يمارس التعذيب بوحشية.
استجواب تحت التهديد:
في اليوم الثالث استدعي أيوب لمقابلة مسؤول في قوات الدعم السريع وأمضى الضابط عشر دقائق يحدق فيه بصمت قبل أن ينهال عليه بوابل من الأسئلة: “هل أنت مستنفر مع الجيش؟ أجاب بالنفي لكنهم لم يقتنعوا وبدأوا تشغيل صوت مزعج أنهك أعصابه بينما استمر الاستجواب لساعات قبل أن يعاد إلى المعتقل.
وعند المساء طلب منه أداء قسم الولاء للدعم السريع متعهدا بعدم الحديث عن ما رآه في المعتقل وكان ذلك شرطا لإطلاق سراحه حيث خرج منهكا فاقدا لكل ممتلكاته لكنه لم يكن يدرك أن معاناته لم تنته بعد.
من معتقل إلى آخر:
وبعد مغادرته لم يكد يبتعد كثيرا حتى أوقفه عنصران من الأمن التابع للجيش السوداني في حي المصانع اقتادوه إلى جهة مجهولة حيث احتُجز في غرفة متسخة مع ثلاثة معتقلين آخرين ظهرت عليهم آثار التعذيب.
وبدأ استجوابه من جديد، ولكن هذه المرة باتهامه بالانتماء إلى الدعم السريع عاد إليه شبح المعتقل الأول وتملكه الرعب من المصير الذي قد يواجهه لولا أن أحد الضباط تعرف عليه إذ كان والد أحد زملائه في الجامعة وبفضل ذلك تم إطلاق سراحه ليلا في منطقة معزولة حيث صادف جنديا كان يعرفه من أيام لعب كرة القدم قبل الحرب ليجد في النهاية طريقه إلى مستشفى الفاشر السعودي.
مستشفى الدم وأوضاع متدهورة:
داخل مستشفى الفاشر السعودي أو كما يسميه الأطباء “مستشفى الدم” واصل الطبيب أيوب إبراهيم عمله رغم الأوضاع المتدهورة ويصف الوضع قائلا: “قبل الحرب كان هناك استقرار نسبي حيث تتلقى المستشفيات دعما حكوميا ومن المنظمات الدولية ولكن مع اندلاع الصراع خرج مستشفى الفاشر التعليمي ومستشفى الأطفال من الخدمة بسبب وقوعهما في مناطق القتال فيما أصبح المستشفى السعودي رغم قلة الموارد الملاذ الأخير للمرضى.”
ومع نقص الكوادر والمعدات ومواد التخدير اضطر الأطباء لتحويل بعض العنابر إلى مساكن طبية، بينما استقبل المستشفى الجنوبي أعدادا هائلة من الجرحى والنازحين وحاولت منظمات مثل “أطباء بلا حدود” تقديم المساعدة لكن حجم الكارثة كان يفوق الإمكانيات.
الفرار إلى المنفى:
ومع تصاعد التهديدات الأمنية والمضايقات قرر أيوب مغادرة الفاشر متجها إلى مستشفى سرف عمرة حيث عمل لمدة سبعة أشهر ولكنه سرعان ما أدرك أن البقاء لم يعد خيارا فاختار اللجوء إلى أوغندا ليبدأ رحلة جديدة من المعاناة حيث يواجه صعوبات في الالتحاق بالنظام الطبي اليوغندي بسبب تعقيد الإجراءات.
ويختتم الطبيب أيوب إبراهيم حديثه بمناشدة جميع أطراف الصراع وقف الحرب مشددا على ضرورة تأمين الكوادر الطبية وضمان وصول المساعدات الإنسانية داعيا زملاءه إلى الصبر والتماسك حتى يعم السلام السودان