في ركن قصي من القرن الإفريقي، وعلى الساحل الذي ظل يحكي قصص التجار والمستعمرين واللاجئين، تجرأت “أرض الصومال” على كسر صمت هذا التاريخ، وأعلنت نفسها جمهورية تنتظر اعترافًا منذ العٱم 1991.
لكن ها هي إسرائيل ـ برشاقة الساعي إلى أكثر من نفوذ ـ تمنحها اليوم أول اعتراف رسمي، فتُزلزل بذلك ثوابت القانون الدولي، وتوقظ أسئلة مشتعلة في عواصم عدة.
لكن السؤال الأهم ليس عن أرض الصومال وحدها، بل: لماذا تعود “الدول التي كانت”، لتطالب جهرا أو علي استحياء بمكان لها تحت الشمس من جديد؟
لماذا تئن الآن كردفان ودارفور تحت وطأة هذا الصراع وازيز المسيرات ودوي المدافع؟
ولماذا يبدو اليمن الجنوبي كمن يتنفس في جسد غير جسده؟
ولماذا تعلو الآن رايات ورايات وكأنها تهمس: “لم نكن جزءًا من هذا الوطن، بل أُجبرنا المستعمر علي الإنتماء اليه بقوة الحديد والنار”؟
ما يحدث بالضبط، ليس انفصالًا بقدر ما هو استدعاء للذاكرة السياسية، لشرعية ضائعة، ولماضٍ كان دولًا وسلطنات، ثم صار أقاليم مهمشة في خرائط أكبر من قدرتها على التحمّل.
إسرائيل تدرك هذا جيدًا.
تدرك إن اعترافها بأرض الصومال ليس عاطفة، بل جزء من لعبة أكبر.
إنه تلويح لما يمكن أن يكون في دارفور إن دانت لها السيطرة علي أرضها، أو في كردفان وجبال النوبة لو طال نزفها، أو في شرق السودان وجنوب النيل الأزرق إن استمر تقاعس قطار التنمية والخدمات عنها.
إنه — في جوهره — رسالة تقول:
“لا قداسة للحدود التي ترسمها الخرائط إن لم تحمِها الدولة بالمساواة بين شعوبها وبعدالة حكمها”.
أما ترامب، ورغم أنه ترك الباب مواربًا، متسائلًا بدهشة: “هل يعرف أحد ما هي أرض الصومال؟” — فهو يعرف، كما يعرف الجميع، أن التاريخ حين يعود، لا يستأذن، بل يقتحم، ويفرض نفسه واقعًا سياسيًا قاسيًا.
السؤال إذًا: هل نستيقظ ذات صباح لنرى كيانات معترفا بها، قائمة بذاتها تتحدث باسم كردفان ودارفور أو حتي باسم النيل الأزرق والشرق؟
أو أن نري مجلس الجنوب في اليمن يعيد نصب علم جمهوريته على قصر معاشيق كما كان؟
الجواب ليس عند إسرائيل، ولا في تل أبيب، ولا في واشنطن.
الجواب في قدرة هذه الدول القائمة نفسها على التماسك من داخلها، على إعادة تعريف نفسها لا كقيد على الأقاليم المتململة من كتلونيا الي هارجيسا، بل كمجال أمان لها.
فحين تفشل الدول في صياغة “وطن جامع” لا يميز بين الناس بوجوههم الغريبة، وسحناتهم المتباينة، والسنتهم المتعددة، يُصبح حينها التاريخ القديم خيارًا قابلًا للبعث من جديد.
وبالطبع حين يتحدث التاريخ، تُصبح الحدود مجرّد خطوط باهتة، لا تصد رصاصة، ولا تمنع تحليق طائرة من دون طيار.
فهل تستمع هذه العواصم المهددة بالزوال اليوم، لنبض الأرض قبل أن تُعيدها الرياح إلى ما قبل الخرائط؟
أم أننا نعيش فعلاً على أرض دولٍ ولِدت ميتة، ينهض بعضها الآن ليُدفن من جديد.. بإسم جديد، وعَلَم جديد، وحدود لم تحظي سوي باعتراف متأخر؟
فالتاريخ عموما لا يموت، لكن يبدو أنه قادر علي التنكر في إهاب جمهورية ذات إرادة تتطلع للإعتراف، مهما طال بها السفر والإنتظار.