Fajr Press

البرهان والدقير ركبتان لسلطة واحدة

بقلم - عمار نجم الدين

إذا تواطأتِ الألسنُ والسيوفُ معًا

فذاك عهدٌ يُسمّى فيه الخرابُ نظاما

منذ الحجّاج بن يوسف، تعلّمت الدولة أن تحكم الأطراف برجالٍ يشبهونها حين تحتاجهم، وتتخلّى عنهم حين يثقل ظلّهم. لكنها لم تتعلّم يومًا أن العطب ليس في الأطراف، بل في الركبتين اللتين تدّعيان حمل الدولة، وهما سبب عرجها.
فالحكم لا يقوم على ركبة واحدة، بل على ركبتين متواطئتين:
واحدة بالسيف، وأخرى باللسان.
تبدوان مختلفتين، لكنهما تنهضان معًا، وتبركان معًا، وحين يسقط الجسد تُلقيان اللوم على الطريق، لا على نفسيهما.
في هذا السياق، قال عمر الدقير إن عبد الفتاح البرهان ومحمد حمدان دقلو (حميدتي) هما «ركبتي بعير»؛ أي وجهان لعملة واحدة، لا يمكن الفصل بينهما ولا تفضيل أحدهما على الآخر في السلطة. تشبيهٌ يبدو في ظاهره دعوة لتجنّب الحرب، لكنه في جوهره يعيد إنتاج خطاب قديم للدولة المركزية: خطاب المساواة الشكلية بين الصانع والأداة، بين المؤسسة ونتاجها.
التشبيه، في أصله العربي، قيل لفضّ نزاع بين طرفين متكافئين في الشرف والمكانة. لكن السؤال الجوهري الذي لم يُطرح هو:
هل البرهان وحميدتي متكافئان تاريخيًا وبنيويًا؟
هل يقفان في الموقع نفسه داخل الدولة؟
الجواب: لا.
عبد الفتاح البرهان يمثّل الدولة في صورتها الصلبة:
المؤسسة العسكرية، الامتياز التاريخي، احتكار العنف، وصناعة المليشيات كأداة حكم.
أما حميدتي، بكل ما عليه من مسؤوليات وجرائم لا تُنكر، فهو نتاج هذه الدولة: نتاج التهميش، وعسكرة الفقر، وتجفيف التعليم، وتحويل الهامش إلى خزان بشري للسلاح. لم تصنعه الصدفة، بل صنعته سياسات مركزية طويلة، صنعت قبله عشرات المليشيات القبلية، ثم أنكرتها واحدة تلو الأخرى.
مساواة حميدتي بالبرهان هي مساواة بين المنتج والمصنع.
ومساواته بهما معًا ليست قراءة بريئة، بل محاولة واعية لتذويب المسؤولية التاريخية، حتى لا يُطرح السؤال الأخطر:
من الذي صنع هذا الخراب؟ ومن الذي استفاد منه؟
الأخطر أن عمر الدقير لا يطرح هذا التشبيه من موقع خارجي محايد، بل من داخل البنية نفسها. فهو لا ينتقد المركز، بل يتكلم بلغته. يمثّل الوجه المدني للنخبة المركزية التي سكنت الهامش سياسيًا لا اجتماعيًا، واستثمرت في ضغط السلاح دون أن تتحمّل كلفته، ثم تخلّت عن حلفائها لحظة اقتراب السلطة. هكذا تُعاد صياغة الأزمة بوصفها صراع أشخاص، لا نظام حكم؛ ويُساوى بين الصانع والمصنوع، لا طلبًا للعدل، بل حمايةً للمركز من لحظة المساءلة.
تجربة نداء السودان، ثم اجتماعات أديس أبابا في يوليو 2019، شاهدة على ذلك. الحركات المسلحة استُخدمت كرافعة ضغط ضد النظام، ثم أُقصيت حين جرى الاتفاق الثنائي بين قوى الحرية والتغيير والمجلس العسكري، دون إدراج قضايا السلام أو الالتزام بتفاهمات الشركاء. وحين احتجّت تلك الحركات، وُصفت بالإقصائية والانقلابية، تمامًا كما وُصف الدعم السريع لاحقًا بعد أن أدّى وظيفته.
ما فعلته النخبة المدنية المركزية بالحركات المسلحة هو النسخة الناعمة مما فعله عبد الفتاح البرهان بحميدتي لاحقًا:
استخدام، ثم تخلٍّ، ثم إدانة أخلاقية بأثر رجعي.
لهذا، فإن تشبيه «ركبتي البعير» إذا أُخذ بجدية، يقود إلى نتيجة معاكسة تمامًا لما أراده صاحبه.
فركبتا البعير الحقيقيتان ليستا البرهان وحميدتي، بل عبد الفتاح البرهان وعمر الدقير.
الأول يمثّل عنف الدولة الصلب،
والثاني يمثّل عنفها الناعم،
وكلاهما ينتميان إلى المركز، ويشتركان في الخوف نفسه: لحظة وعي الهامش بأن ما جرى لم يكن صراع أشخاص، بل بنية حكم كاملة.
أما حميدتي، فليس ركبة في جسد الدولة، بل ندبة فيها؛ جرح صنعته الدولة، ثم خافت أن ينطق، فطلبت من الجميع أن ينسوا من صنع السكين.
ليست المشكلة في البعير، ولا في الحمل،
بل في الركبتين حين تتشابهان،
وتصرّان على الحكم باسم الحكمة،
وتدّعيان الخصام وهما وجهان لعملة واحدة.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.